الثلاثاء، 8 يونيو 2010

في الطريق إليها...الحلقة الثالثة


"قم يا خالد...إن هو إلا جرحٌ بسيطٌ في ذراعك...علامَ الصراخ!!!...ثم أني لم أعتد عليك تذهل عن المبارزة للحظةٍ واحدة...ونحن نستعد الآن للقاء جيشٍ قوي"

"لا تقلق يا عماه...ليست صرختي من الوجع كلا...إنما ذهلني ما رأيت...لم أشهد موقفًا كهذا من قبل...خليفة المسلمين وسلطانهم يشرف على عملية البناء بنفسه ويحمل الحجارة مع البنائين والعبيد وهم يبنون القلعة...ياله من مشهد يدعو للدهشة"

"نعم...يدعو للدهشة حقًا...لكن هذا نتاج تربية السلطان وتعليمه الراقي...وأخلاقه الحسنة التي جعلت منه شعلة حماس لمن حوله صغيرهم قبل كبيرهم...انظر كيف يعمل العمال في اجتهاد لا يصدق...وكأن الواحد منهم يبني بيته الذي سيعيش فيه بقية عمره هو وأولاده وأحفاده...كم أنت عظيمٌ يا أيها السلطان..."

"عمي...ما أخبار الجيش القوي الذي ينتظرنا!!...أستضيع وقتنا في التعجب...هيا فلنكمل...تصد لهذه إن استطعت..."

واستكمل (خالد) مبارزته مع عمه في حماسٍ ومهارة...غير آبه لجرحه الصغير...إنما ربط على ذراعه قطعة قماشٍ لتمنع الدم ثم أكمل التدريب بكل قوة... واستكمل الجيش كله تدريباته واستعداداته للحرب...حتى اكتمل بناء القلعة في ثلاثة شهور...وقتٌ قصيرٌ لبناء قلعةٍ يصل ارتفاعها إلى 82 مترًا في السماء...لو كان هناك طائرات في ذلك الزمان لأعجبك منظرها من السماء أيما إعجاب...فهي قلعة على هيئة مثلثٍ سميك الجدران...في كل زاوية منها برجٌ عظيمٌ مغطى بالرصاص...وعلى الشاطئ أمامها نُصِبَت مجانيق ومدافع ضخمة...مصوبة أفواهها إلى الشاطئ...كنوعٍ من أسلحة الردع...حتى يضمن السلطان ألا تمر أي سفينة رومية أو أوروبية من مضيق البوسفور...وسميت هذه القلعة باسم ((رومللي حصار)) أي قلعة حصار الروم...

.........................................................

"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...ما هذا...أحلمٌ هو أم كابوس...لقد بدأ جميلاً وأنا أتمتع بالنظر إلى ذلك الطائر الأبيض الرشيق محلقًا فوق دارنا...لكن ضاق صدري بذلك الغراب الذي حلق أعلى دار أم خالد...اللهم خيرًا...اللهم خيرًا..."

قامت (حبيبة) في فزعٍ مما رأت...لم يكن الفجر قد جاء بعد...توضأت وصلت ركعتين وجلست ترتل من آيات الله ما يطمئن به قلبها...حتى أذن الفجر فقامت له وبعد أن فرغت ذهبت لتطل على (أم خالد) ولتقضي لها ما تحتاجه بكل تواضعٍ وحب...

نزلت من دارها متوجهةً لدار أم خالد...ودلفت من الباب الشبه مفتوح لتجد لا شيء...لا صوت...لا حركة...فقط وجدت جثة امرأةٍ في وضع السجود...ولا شيء غير ذلك...

....................................

نعم توفيت أم خالد...قضت نحبها ولم ترَ ما كانت ترجوه من الله أن ترى ابنها عائدًا لها براية النصر وفتحٍ عظيم...لكن هو قدرُ الله في خلقه...وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت...تقبلت (حبيبة) موت أم خالد بعينٍ يسيل منها الدمع بلا انقطاع...وبقلبٍ حزينٍ أليم...يؤلمها فراق أم خالد...ويؤلمها أكثر فراقها عن ابنها وفراقه عنها...فهو في الجهاد الآن ولا يعلم عن موت أمه شيئًا...

"آآآآآآآآه...آآه لو عندي أجنحة كالطير لأطير إلى هناك لأخبره عن وفاة أمه..."

"لا...أيكون هذا أول حديث لي معه...أيعلم مني خبرًا كهذا!!...لا...فليتم جهاده وليعد بإذن الله ثم هناك من سيخبره بذلك...رحمك الله يا أم خالد وأسكنك فسيح جناته...وحشرك مع النبيين والشهداء والصالحين...وألهم ابنك الصبر والسلوان على فراقك...اللهم آمين"

وما أن تمت مراسم الدفن...حتى بلغ حبيبة خبر لو كان في وقتٍ آخر لطارت به فرحًا وبهجة...أعلن السلطان حشد المزيد من الجنود والعتاد للذهاب إلى القسطنطينية لدعم الجيش هناك...وكانت من المطلوبين في هذا الحشد...ففي نية السلطان (محمد الثاني) أن يزيد من عدد المسلمين هناك...حتى يسيطر على عددٍ كبيرٍ من الأراضي وحتى يستطيع فرض الحصار بقوة عددية مهولة...

وهنا...خليطٌ من المشاعر اجتاح قلب (حبيبة)...توقف عقلها عن التفكير...وأصبح يسيطر عليها قلبٌ ينبض وعينٌ تدمع...فرحًا وحزنًا...خوفًا ورجاءً...ألمًا وأملاً...تردد في صوت خافت "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين... ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين...سبحان المانع المعطي...الحمد لله الذي منعني الخروج في البداية ومنحني إياه حين صبرت على قضائه وقدره...وسامح الله من كادت لي لتمنعني الثواب...والله غالبٌ على أمره...الحمد لله..."

أسرعت بالاستعداد لرحلة الجهاد التي طالما رغبت بها...وترحمت على أم خالد وذهبت مع الجيش وكلها حماسٌ وصبر.

............................

في ساعة حراسةٍ للقلعة يقضيها (خالد) وبجواره عمه (منصور)...الذي كان غائبًا عنه طويلاً..."عماه...كم أنا سعيدٌ ان لقيتك في جهادٍ كهذا بعد سفرك الطويل وفراقك لنا...احكِ لي عن أيامك كيف مرت...لكن انتظر...قبل أن تحكي يشغل بالي سؤالٌ ملح...لِمَ لم تتزوج حتى الآن وقد مضى من عمرك سنين؟!!...أنت لست كبيرًا في السن لكن أظنك تأخرت...ألا تتخذ زوجةً تسكن إليها وتسكن إليك؟!"

"هههههههه...ومن أخبرك بأني لم أتزوج؟!"

"سبحان الله...لم أرَ لك ولدًا ولا أخبرتني عن امرأةٍ تنتظر عودتك من هنا..."

"نعم يا خالد...هو كذلك...لكني تزوجت بالفعل...ولكن لم يدم ذلك الزواج...اسمع يا بني...أنا مثل أبيك...أمضيت عمري ولله الحمد في الجهاد في سبيل الله...لكن لم يشغلني ذلك عن طلب الزواج والسكنى...لكن ما جعل والدك يتزوج ويدوم زواجه وأنا لا...هو أنه وجد في امرأةٍ ما يملأ قلبه وعقله معًا...أما أنا فلم أجد ذلك...حتى من تزوجتها –وإن ملأت علي قلبي- لكن لم يقبلها عقلي...لطالما سَئِمَت خروجي المتكرر للجهاد واشتكت أني أغيب عنها كثيرًا...لم يكن يشغل بالها نصرة الدين ونشر دعوة الإسلام في أرجاء الأرض...كانت شديدة الارتباط بالدنيا وحُلِيها...على عكسي تمامًا...فطلبت أن نفترق...فلم أرغمها على الوصال...وتركتها في سلام...وها أنا ذا أبحث عمن تكون لي كما كانت أم خالد لأبي خالد..."

"ألم تكن تحبها يا عماه؟!! ألم يصبرك حبك على ما وجدتَ منها من شكوى"

"آآآه...كانت عشقي الأوحد...أحببتها كما لم يحب رجل امرأة من قبل...لكن يا بني...تعلمت أن حب القلب وحده لا يكفي لبيتٍ تملؤه المودة والرحمة...واسمع مني وافهم جيدًا...حتى إذا تزوجت بحثت عمن تملأ عقلك وقلبك سويًا...لا تنجرف وراء قلبك فقط...ولا تجعل عقلك يرغمك على زواجٍ أنت له كاره...أنت تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه ((تخيروا لِنُطَفِكُم...فإن العرق دساس))...فابحث جيدًا ولا تتعجل...لكن أسرع البحث وأتقنه...فإنك ستختار من تكون لك كحواء لآدم...سكنٌ ومودة ورحمة...وكذلك من سوف تربي معك أولادك...فانظر كيف تريد أن تكون أمهم..."

"ممممم...حسنًا يا عماه...رزقك الله زوجةً صالحة...تملأ قلبك وعقلك..."

ويكمل خالد مداعبًا عمه "لكن لن أتنازل عن أن أكون شاهدًا على هذا الزواج...وإلا لن ترَ مني خيرًا"

"ههههههه حسنًا يا هذا...دعك من هذا الحديث وانتبه لحراستك...وأنا سأقوم لأحضر ما نأكله فاليوم طويل"

يتحرك عم خالد بجوار أسوار القلعة...فيسمع همسًا في غريبًا في المنطقة...وصوت خطواتٍ خفيفة...فيقترب بحذرٍ شديد واضعًا يده على سيفه وكله تأهب...ليجد بعض جنود الروم يتسللون في خفيةٍ من مدخلٍ جانبي إلى داخل القلعة...وفجأة...يحتك هؤلاء الجنود بعمال البناء وهم يكملون بناء القلعة...فيقتلون منهم ثلاثة...وما أن رأى ذلك حتى انطلق ناحيتهم صارخًا بأعلى صوته ليرهبهم وليصل صوته لخالد في الجوار...فضرب بسيفه اثنان منهم أسقطهم صرعى...لكن انقض عليه خمسة من خلفه فقاومهم ما استطاع...لكن أصابته سيوفهم في أكثر من مكان بجسده...وكانت الأخيرة حين ضربه أحدهم بهراوةٍ على ظهره فلم يحتملها وسقط إثرها أرضًا...كادوا يينقضون عليه ليجهزوا عليه...لكن رحمة الله أن سمع خالد ذلك صوت عمه وانطلق إلى مكان الصوت ليباغت هؤلاء الجنود من الخلف فيقتل ثلاثةً منهم ويجرد اثنان من سلاحهما ويأخذهما أسرى...لكنه هنا في هذا المكان الخفي وحيدًا مع عمه المصاب واثنان من الروم...فصرخ مستنجدًا "أغيثووووناااااا"

.............................

في هذه الأثناء يصل المدد الذي طلبه السلطان إلى القلعة...وما أن وصلوا أسوار القلعة حتى وصلهم صوت استنجاد خالد الذي كان أقرب لهم ممن في داخل القلعة...فذهبت فرقةٌ منهم إلى مكان الصوت...وأسرعت حبيبة لتذهب مع هذه الفرقة...وكأن قلبها أحس أن هناك شيئًا ما...

لقد هالهم المشهد...وخاصةً (حبيبة) التي لم تكد تصدق ما ترى...خالد مصاب وبجواره رجل مستلقٍ على الأرض مليءٌ بالجراح...

كانت مفاجأة أيضًا بالنسبة لخالد...آخر ما كان يتوقعه أن يرى حبيبة في مثل هذا الوقت وفي مثل هذا الموقف الضعيف...صرخ فيهم جميعًا "أفيكم طبيب؟؟!! أنجدوا عمي من الهلاك"...وينتظر أن تتحرك حبيبة لتنقذ عمه فهو يعلم أنها هي الطبيبة...لكن فوجئ برد فعلٍ غريب...فقد انهالت على وجهها الدموع وتركت المكان وهي تجري بعيدًا...دون أدنى كلمة...

ولا يمكن وصف ما تملك خالد من دهشةٍ وحيرة في هذا الموقف...

أما مجموعة الرجال فقد أسرعوا لحمل (منصور) عم خالد على عجل إلى داخل القلعة...ومعهم خالد في صمتٍ مطبق...

أما حبيبة فتجري في بكاءٍ عميق...تقول في قرارة نفسها وصوتها تشوبه الشهقات والآهات..."...لا...لن أكون من شهد وفاة أمه وعمه في آن واحد...لا...لن أحتمل...كيف إذا مات عمه بين يدي...وهو لا يعلم ما أنا آتية به إليه من أخبارٍ حزينة...بل أخبارٍ قاتلة...آآآآآآآآآآآآآآآآآآه...سامحني يا الله...وسامحني يا خالد على ما فعلت..."

................................

كانت هذه الموقعة الصغيرة إحدى المناوشات التي يقوم بها الروم البيزنطيون في محاولتهم لهدم قلعة المسلمين وإعاقة عملية البناء بقتلهم العمال والإغارة عليهم سرًا...واستفاق خالد من ذهوله واطمأن على عمه وحمد الله أن عمه نجا من مثل هذه المناوشات...وأثناء ما هو جالس بجواره جعل يحدث نفسه طويلاً في المشهد الأخير..."ماذا حدث!! لماذا فعلت حبيبة هكذا!!...أهذه من سأتزوجها...امرأةٌ مترددة غريبة الأطوار...تهاب الدم...تهرب وقت الجد...أهذه من ستربي أولادي وتعلمهم الجهاد والصبر!!! وكأني كنت نائمًا وأنا أفكر فيها...صدقتَ ياعمي فيما قلته عن الزواج وعن القلب والعقل...بئس ما فعلتِ يا حبيبة...حقًا بِئس ما فعلت..."............................يتبع

هناك تعليق واحد: