الثلاثاء، 8 يونيو 2010

في الطريق إليها...الحلقة الثالثة


"قم يا خالد...إن هو إلا جرحٌ بسيطٌ في ذراعك...علامَ الصراخ!!!...ثم أني لم أعتد عليك تذهل عن المبارزة للحظةٍ واحدة...ونحن نستعد الآن للقاء جيشٍ قوي"

"لا تقلق يا عماه...ليست صرختي من الوجع كلا...إنما ذهلني ما رأيت...لم أشهد موقفًا كهذا من قبل...خليفة المسلمين وسلطانهم يشرف على عملية البناء بنفسه ويحمل الحجارة مع البنائين والعبيد وهم يبنون القلعة...ياله من مشهد يدعو للدهشة"

"نعم...يدعو للدهشة حقًا...لكن هذا نتاج تربية السلطان وتعليمه الراقي...وأخلاقه الحسنة التي جعلت منه شعلة حماس لمن حوله صغيرهم قبل كبيرهم...انظر كيف يعمل العمال في اجتهاد لا يصدق...وكأن الواحد منهم يبني بيته الذي سيعيش فيه بقية عمره هو وأولاده وأحفاده...كم أنت عظيمٌ يا أيها السلطان..."

"عمي...ما أخبار الجيش القوي الذي ينتظرنا!!...أستضيع وقتنا في التعجب...هيا فلنكمل...تصد لهذه إن استطعت..."

واستكمل (خالد) مبارزته مع عمه في حماسٍ ومهارة...غير آبه لجرحه الصغير...إنما ربط على ذراعه قطعة قماشٍ لتمنع الدم ثم أكمل التدريب بكل قوة... واستكمل الجيش كله تدريباته واستعداداته للحرب...حتى اكتمل بناء القلعة في ثلاثة شهور...وقتٌ قصيرٌ لبناء قلعةٍ يصل ارتفاعها إلى 82 مترًا في السماء...لو كان هناك طائرات في ذلك الزمان لأعجبك منظرها من السماء أيما إعجاب...فهي قلعة على هيئة مثلثٍ سميك الجدران...في كل زاوية منها برجٌ عظيمٌ مغطى بالرصاص...وعلى الشاطئ أمامها نُصِبَت مجانيق ومدافع ضخمة...مصوبة أفواهها إلى الشاطئ...كنوعٍ من أسلحة الردع...حتى يضمن السلطان ألا تمر أي سفينة رومية أو أوروبية من مضيق البوسفور...وسميت هذه القلعة باسم ((رومللي حصار)) أي قلعة حصار الروم...

.........................................................

"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...ما هذا...أحلمٌ هو أم كابوس...لقد بدأ جميلاً وأنا أتمتع بالنظر إلى ذلك الطائر الأبيض الرشيق محلقًا فوق دارنا...لكن ضاق صدري بذلك الغراب الذي حلق أعلى دار أم خالد...اللهم خيرًا...اللهم خيرًا..."

قامت (حبيبة) في فزعٍ مما رأت...لم يكن الفجر قد جاء بعد...توضأت وصلت ركعتين وجلست ترتل من آيات الله ما يطمئن به قلبها...حتى أذن الفجر فقامت له وبعد أن فرغت ذهبت لتطل على (أم خالد) ولتقضي لها ما تحتاجه بكل تواضعٍ وحب...

نزلت من دارها متوجهةً لدار أم خالد...ودلفت من الباب الشبه مفتوح لتجد لا شيء...لا صوت...لا حركة...فقط وجدت جثة امرأةٍ في وضع السجود...ولا شيء غير ذلك...

....................................

نعم توفيت أم خالد...قضت نحبها ولم ترَ ما كانت ترجوه من الله أن ترى ابنها عائدًا لها براية النصر وفتحٍ عظيم...لكن هو قدرُ الله في خلقه...وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت...تقبلت (حبيبة) موت أم خالد بعينٍ يسيل منها الدمع بلا انقطاع...وبقلبٍ حزينٍ أليم...يؤلمها فراق أم خالد...ويؤلمها أكثر فراقها عن ابنها وفراقه عنها...فهو في الجهاد الآن ولا يعلم عن موت أمه شيئًا...

"آآآآآآآآه...آآه لو عندي أجنحة كالطير لأطير إلى هناك لأخبره عن وفاة أمه..."

"لا...أيكون هذا أول حديث لي معه...أيعلم مني خبرًا كهذا!!...لا...فليتم جهاده وليعد بإذن الله ثم هناك من سيخبره بذلك...رحمك الله يا أم خالد وأسكنك فسيح جناته...وحشرك مع النبيين والشهداء والصالحين...وألهم ابنك الصبر والسلوان على فراقك...اللهم آمين"

وما أن تمت مراسم الدفن...حتى بلغ حبيبة خبر لو كان في وقتٍ آخر لطارت به فرحًا وبهجة...أعلن السلطان حشد المزيد من الجنود والعتاد للذهاب إلى القسطنطينية لدعم الجيش هناك...وكانت من المطلوبين في هذا الحشد...ففي نية السلطان (محمد الثاني) أن يزيد من عدد المسلمين هناك...حتى يسيطر على عددٍ كبيرٍ من الأراضي وحتى يستطيع فرض الحصار بقوة عددية مهولة...

وهنا...خليطٌ من المشاعر اجتاح قلب (حبيبة)...توقف عقلها عن التفكير...وأصبح يسيطر عليها قلبٌ ينبض وعينٌ تدمع...فرحًا وحزنًا...خوفًا ورجاءً...ألمًا وأملاً...تردد في صوت خافت "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين... ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين...سبحان المانع المعطي...الحمد لله الذي منعني الخروج في البداية ومنحني إياه حين صبرت على قضائه وقدره...وسامح الله من كادت لي لتمنعني الثواب...والله غالبٌ على أمره...الحمد لله..."

أسرعت بالاستعداد لرحلة الجهاد التي طالما رغبت بها...وترحمت على أم خالد وذهبت مع الجيش وكلها حماسٌ وصبر.

............................

في ساعة حراسةٍ للقلعة يقضيها (خالد) وبجواره عمه (منصور)...الذي كان غائبًا عنه طويلاً..."عماه...كم أنا سعيدٌ ان لقيتك في جهادٍ كهذا بعد سفرك الطويل وفراقك لنا...احكِ لي عن أيامك كيف مرت...لكن انتظر...قبل أن تحكي يشغل بالي سؤالٌ ملح...لِمَ لم تتزوج حتى الآن وقد مضى من عمرك سنين؟!!...أنت لست كبيرًا في السن لكن أظنك تأخرت...ألا تتخذ زوجةً تسكن إليها وتسكن إليك؟!"

"هههههههه...ومن أخبرك بأني لم أتزوج؟!"

"سبحان الله...لم أرَ لك ولدًا ولا أخبرتني عن امرأةٍ تنتظر عودتك من هنا..."

"نعم يا خالد...هو كذلك...لكني تزوجت بالفعل...ولكن لم يدم ذلك الزواج...اسمع يا بني...أنا مثل أبيك...أمضيت عمري ولله الحمد في الجهاد في سبيل الله...لكن لم يشغلني ذلك عن طلب الزواج والسكنى...لكن ما جعل والدك يتزوج ويدوم زواجه وأنا لا...هو أنه وجد في امرأةٍ ما يملأ قلبه وعقله معًا...أما أنا فلم أجد ذلك...حتى من تزوجتها –وإن ملأت علي قلبي- لكن لم يقبلها عقلي...لطالما سَئِمَت خروجي المتكرر للجهاد واشتكت أني أغيب عنها كثيرًا...لم يكن يشغل بالها نصرة الدين ونشر دعوة الإسلام في أرجاء الأرض...كانت شديدة الارتباط بالدنيا وحُلِيها...على عكسي تمامًا...فطلبت أن نفترق...فلم أرغمها على الوصال...وتركتها في سلام...وها أنا ذا أبحث عمن تكون لي كما كانت أم خالد لأبي خالد..."

"ألم تكن تحبها يا عماه؟!! ألم يصبرك حبك على ما وجدتَ منها من شكوى"

"آآآه...كانت عشقي الأوحد...أحببتها كما لم يحب رجل امرأة من قبل...لكن يا بني...تعلمت أن حب القلب وحده لا يكفي لبيتٍ تملؤه المودة والرحمة...واسمع مني وافهم جيدًا...حتى إذا تزوجت بحثت عمن تملأ عقلك وقلبك سويًا...لا تنجرف وراء قلبك فقط...ولا تجعل عقلك يرغمك على زواجٍ أنت له كاره...أنت تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه ((تخيروا لِنُطَفِكُم...فإن العرق دساس))...فابحث جيدًا ولا تتعجل...لكن أسرع البحث وأتقنه...فإنك ستختار من تكون لك كحواء لآدم...سكنٌ ومودة ورحمة...وكذلك من سوف تربي معك أولادك...فانظر كيف تريد أن تكون أمهم..."

"ممممم...حسنًا يا عماه...رزقك الله زوجةً صالحة...تملأ قلبك وعقلك..."

ويكمل خالد مداعبًا عمه "لكن لن أتنازل عن أن أكون شاهدًا على هذا الزواج...وإلا لن ترَ مني خيرًا"

"ههههههه حسنًا يا هذا...دعك من هذا الحديث وانتبه لحراستك...وأنا سأقوم لأحضر ما نأكله فاليوم طويل"

يتحرك عم خالد بجوار أسوار القلعة...فيسمع همسًا في غريبًا في المنطقة...وصوت خطواتٍ خفيفة...فيقترب بحذرٍ شديد واضعًا يده على سيفه وكله تأهب...ليجد بعض جنود الروم يتسللون في خفيةٍ من مدخلٍ جانبي إلى داخل القلعة...وفجأة...يحتك هؤلاء الجنود بعمال البناء وهم يكملون بناء القلعة...فيقتلون منهم ثلاثة...وما أن رأى ذلك حتى انطلق ناحيتهم صارخًا بأعلى صوته ليرهبهم وليصل صوته لخالد في الجوار...فضرب بسيفه اثنان منهم أسقطهم صرعى...لكن انقض عليه خمسة من خلفه فقاومهم ما استطاع...لكن أصابته سيوفهم في أكثر من مكان بجسده...وكانت الأخيرة حين ضربه أحدهم بهراوةٍ على ظهره فلم يحتملها وسقط إثرها أرضًا...كادوا يينقضون عليه ليجهزوا عليه...لكن رحمة الله أن سمع خالد ذلك صوت عمه وانطلق إلى مكان الصوت ليباغت هؤلاء الجنود من الخلف فيقتل ثلاثةً منهم ويجرد اثنان من سلاحهما ويأخذهما أسرى...لكنه هنا في هذا المكان الخفي وحيدًا مع عمه المصاب واثنان من الروم...فصرخ مستنجدًا "أغيثووووناااااا"

.............................

في هذه الأثناء يصل المدد الذي طلبه السلطان إلى القلعة...وما أن وصلوا أسوار القلعة حتى وصلهم صوت استنجاد خالد الذي كان أقرب لهم ممن في داخل القلعة...فذهبت فرقةٌ منهم إلى مكان الصوت...وأسرعت حبيبة لتذهب مع هذه الفرقة...وكأن قلبها أحس أن هناك شيئًا ما...

لقد هالهم المشهد...وخاصةً (حبيبة) التي لم تكد تصدق ما ترى...خالد مصاب وبجواره رجل مستلقٍ على الأرض مليءٌ بالجراح...

كانت مفاجأة أيضًا بالنسبة لخالد...آخر ما كان يتوقعه أن يرى حبيبة في مثل هذا الوقت وفي مثل هذا الموقف الضعيف...صرخ فيهم جميعًا "أفيكم طبيب؟؟!! أنجدوا عمي من الهلاك"...وينتظر أن تتحرك حبيبة لتنقذ عمه فهو يعلم أنها هي الطبيبة...لكن فوجئ برد فعلٍ غريب...فقد انهالت على وجهها الدموع وتركت المكان وهي تجري بعيدًا...دون أدنى كلمة...

ولا يمكن وصف ما تملك خالد من دهشةٍ وحيرة في هذا الموقف...

أما مجموعة الرجال فقد أسرعوا لحمل (منصور) عم خالد على عجل إلى داخل القلعة...ومعهم خالد في صمتٍ مطبق...

أما حبيبة فتجري في بكاءٍ عميق...تقول في قرارة نفسها وصوتها تشوبه الشهقات والآهات..."...لا...لن أكون من شهد وفاة أمه وعمه في آن واحد...لا...لن أحتمل...كيف إذا مات عمه بين يدي...وهو لا يعلم ما أنا آتية به إليه من أخبارٍ حزينة...بل أخبارٍ قاتلة...آآآآآآآآآآآآآآآآآآه...سامحني يا الله...وسامحني يا خالد على ما فعلت..."

................................

كانت هذه الموقعة الصغيرة إحدى المناوشات التي يقوم بها الروم البيزنطيون في محاولتهم لهدم قلعة المسلمين وإعاقة عملية البناء بقتلهم العمال والإغارة عليهم سرًا...واستفاق خالد من ذهوله واطمأن على عمه وحمد الله أن عمه نجا من مثل هذه المناوشات...وأثناء ما هو جالس بجواره جعل يحدث نفسه طويلاً في المشهد الأخير..."ماذا حدث!! لماذا فعلت حبيبة هكذا!!...أهذه من سأتزوجها...امرأةٌ مترددة غريبة الأطوار...تهاب الدم...تهرب وقت الجد...أهذه من ستربي أولادي وتعلمهم الجهاد والصبر!!! وكأني كنت نائمًا وأنا أفكر فيها...صدقتَ ياعمي فيما قلته عن الزواج وعن القلب والعقل...بئس ما فعلتِ يا حبيبة...حقًا بِئس ما فعلت..."............................يتبع

الخميس، 27 مايو 2010

في الطريق إليها...الحلقة الثانية


"لا...لن أحتمل...لابد من طريقة أخرج بها للجهاد...لن أدع فرصة كهذه تفوتني...ممممم...وجدتها...هناك العديد من العبيد يذهبون هذه الأيام لبناء القلعة التي أمر ببنائها السلطان على الجانب الأوروبي المقابل لمدينة القسطنطينية، حتى يجعل من هذه القلعة مركزًا لهجومه على المدينة، ماذا سيحدث إن تلثمت وتخبأت في زي العبيد وذهبت معهم للبناء حتى يحين وقت الجهاد!! لن يعرف ذلك أحد إلا الله..."

وبدأت (حبيبة) بالاستعداد جديًا وأعدت ملابس العبيد المهلهلة وعقدت النية على الخروج، وقامت من الليل لتصلي فجرها وتخرج...ولكن أثناء صلاتها...

((...ولا الضالين..آمين...ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرجٌ إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفورٌ رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلتَ لا أجد ما أحملكم عليه

تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا...

تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا...

تولوا وأعينهم تفيض من الدمع...حزنًا......ألا يجدون ما ينفقون...))

وفاضت عينا (حبيبة) من الدمع حزنًا وسقطت ساجدة على الأرض لم تحملها قدماها...وظلت تبكي وتئن وقلبها يكاد ينشق عن صدرها ويخرج صارخًا ملبيًا نداء حي على الجهاد...ودموعها كسهام مسممة تفتك بها الواحدة تلو الآخرى...وكأنها لأول مرة تقرأ هذه الآية...لأول مرة يتغشاها هذا الحزن العميق...لكن لا عجب ممن عاش في خدمة دين الله أن ينفطر قلبه حزنًا إذا حُرِمَ يومًا من هذه النعمة الجليلة...فما كان حزنها شديدًا إلا لأن حبها لخدمة الإسلام شديد...تعلم وتوقن أن من اختاره الله في مكان يخدم فيه الدين إنما اختاره لأنه سبحانه يعلم كفاءته لهذا المكان، وأن فيه الخير كل الخير له وللأمة...وبئس من يستخدمه الله في خدمة دينه ثم يتنصل من ذلك تنصل الهارب من النار إن أصابه لهيبها...

قامت (حبيبة) من سجدتها وختمت صلاتها والدموع لا زالت في انهمار...وظلت تدعو بأنين خافت...اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا...اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا...اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا...وتراجعت عما نوت عليه من خروجٍ خَفِي...وهي على علمٍ أن ما قدَّره الله لها هو خير مما كان في نيتها...واستلهمت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من طلب الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))...

..................................

في الدار المقابلة يستعد (خالد) ويجهز سلاحه ومئونته للخروج لمعسكر التدريب...صلى فجره وقبَّل يد أمه في خضوع...ورجاها ألا تنقطع عن الدعاء له وللمسلمين بالنصر المؤزر والفتح الكبير...ووعدته بذلك وضمته لصدرها ضمَّةً أودعت فيها كل ما تحمله الأمهات من حنان قلبٍ وفيض حب..."توكل على الله يا بني...إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم...إن شاء الله ستعودون سالمين غانمين فاتحين"

وانطلق مليئًا بالحماس وجهه مستبشر ورأسه في السماء...وتعلو وجهه ابتسامة نصر يلوح في الأفق...

خرج (خالد) من داره مترقبًا نظرة فرح وسعادة من (حبيبة)، وهو يظن أنها ذاهبة هي الأخرى للجهاد لا محالة...لكن فوجئ بابتسامةٍ مكسوةٍ بالدموع...تعجب منها أشد العجب...ولم تفارق صورتها ذهنه طيلة مدة سفره...لم يكن تعجبه من معناها فقد فهمها بسرعة كعادته...لكن تعجب من أن (حبيبة) لم تخرج أصلا للجهاد وهي الحريصة عليه، وليس هناك من مانع يمنعها من الخروج...

"ما بالك يا (خالد)...فيمَ تفكر!!...أنت ذاهبٌ للجهاد وحربٍ ودم...نصرٌ أو شهادة...كيف يذهب تفكيرك لحبٍ وهيام...استفق من غفلتك أراك سكرت دون خمر...تجهز لما ينتظرك...ولا تكن من الغاوين..."

(خالد) يحدث نفسه..."لا أدري حقيقةً...لِمَ أفكر فيها كثيرًا...لِمَ تشغل حيزًا كبيرًا من تفكيري...لِمَ أجد روحها حولي في كل الأفعال والأقوال...مع أني لم أحدثها قط...كل ما أعرفه عنها ما تحكيه لي أمي عنها وعن حسن أخلاقها وحنان قلبها ورجاحة عقلها...لم يسبق أن تشغلني امرأة من قبل كهذا...وحتى وإن لم أعرف عنها شيئًا...أجد روحي تحن لمكان تواجدها...وعيناي تتشوق لنظرةٍ خاطفة منها...حتى ولو كانت من وراء حجاب..."

(خالد) يستمر في محادثة نفسه طوال طريق السفر..."ربِّ إني أدعوك دعاء موسى في الظل...ربِّ إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير...ذاهبٌ أنا للجهاد ولحرب لا يعلم إلا الله منتهاها...ولا أعلم إن كنت سأعود بلادي أم ستكون البارحة هي آخر ليلةٍ أبيتها فيها...هي مدينةٌ لم يكتب الله فتحها لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم...ولم يكتبها للتابعين...أيكتبها لنا نحن؟؟!!...ولِمَ لا؟!! مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء...لعل المولى عز وجل اختصنا بهذا الشرف الكبير...كم انا مشتاقٌ لهذا اليوم الذي ندخل فيه القسطنطينية...حتى وإن لم نحارب ساعة ولم نسفك دمًا...كم أرجو أن يهدي الله أهلها جميعًا على يدينا ويحرم أجسادهم على النار...على قدر ما حاربت في سبيل الله أعداء الله...على قدر ما رجوت أن كل روحًا زهقت على سيفي كانت دخلت في دين الله في سلام...لكن لكل أجلٍ كتاب..."

ما زال يحدث نفسه..."ياااا الله...يشغلني أمران كلاهما مؤرق...جهادٌ في سبيلك وامرأة من إمائك...شغلني حبها حتى كدت أنطق شعرًا لولا ضعف لساني فيه...رباه أنت تعلم أن الجهاد قد شغلني عن الزواج...لا يمر علي شهران إلا وأنا في ميدانٍ معركة أحارب...أو في خندق أبيت في حراسة الناس...وأنت تعلم أيضًا أني حريصٌ أشد الحرص أن أحصن نفسي وأقيها شر الفتنة وبلواها...كما تعلم يا ربي حالي من قلة المال ومراعاتي لأمي التي فقدت زوجها في شبابها ولم يتبق لها سواي...آآآآآآآه...ربِّ...قد خاب وخسر من خادع الله ورسوله...وأنا لن أخادعك يا مولاي...نعم أحب هذه المرأة...وشغلني حبها حتى كدت أنسى الجهاد في سبيلك...وأنا أخشى على نفسي الفتنة التي زادت في زمننا هذا...فالطف بي يا الله واجعلها قدرًا لي...وإن لم يكن بها خير فاقدر لي الخير حيث كان ورضِّني به...أنت نعم المولى ونعم النصير..."

.....................................................

خلا البيت على أم (خالد) كعادة كل الحروب التي يغيب فيها أيامًا وشهورًا...لكن اليوم أتت لزيارتها (حبيبة) لتخفف عنها وحشة الفراق...

"(حبيبة)!! لِمَ لم تذهبي للجهاد...إنها لحربٌ ضروس وسيحتاجوكِ فيها ولا شك..."

"قدر الله ما شاء فعل يا أماه...لم يكتبها لي الله هذه المرة...لعله خير"

"لعله خير..."

"دعك عني...كيف حالكِ اليوم؟؟"

"أحمد الله حمدًا كثيرًا...ذهب (خالد) للجهاد وها أنا أقضي الوقت في عبادة الله والدعاء لهم علَّ الله ينصرهم بقدرته وفضله"

"إن شاء الله سينصرهم ويشد أزرهم...ويهدي على أيديهم كثيرًا من خلقه...وإني أشم رائحة النصر من مكاني هاهنا"

"آآآآآآه يا ابنتي...تذكرينني بزوجي رحمه الله وأسكنه من الجنة الفردوس الأعلى...كان دائم البشر والفأل الحسن...كثيرًا ما قست عليه صروف الزمان...لكنه كان دائمًا ما يجابهها بوجه بشوشٍ وفألٍ حسن...وسبحانك يا ربي...لم أرَ في حياتي من هو أشد بلاءً منه...وكذلك لم أرَ من هو أكثر بشرًا وتفاؤلاً منه...أتعلمين يا حبيبة...لعلي لا أبالغ إن قلت أن أول ما جعلني أتعلق به وأوافق على الزواج منه هو بسمته العذبة ووجهه البشوش...تلك البسمة التي أنستني عذاب سنين مرت علينا سويًا قبل أن يخرج ابننا خالد للنور...كانت معيشتنا صعبة...وكان دائم الجهاد في سبيل الله...ولذلك لا أتعجب من حال ابننا الآن...فمن شابه أباه فما ظلم..."

"وماذا أيضًا يا أماه؟؟" تقولها (حبيبة) بشغفٍ وفضولٍ واضح على عينيها...وتأمل أن تجتذب أم خالد للحديث عن خالد نفسه...أكثر من حديثها عن أبيه...فيبدو أن الحب دق بابها هي الأخرى...

"كان أبو خالد دائمًا ما يكرر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لاعدوى ولا طيرة ’ ويعجبني الفأل قالوا : وما الفأل؟؟ قال:كلمة طيبة))...وكان كل معركة يذهب إليها لا يعلم أسيعود منها أم لن يرجع ابدًا...ومع ذلك كانت ثقته بالله أقوى من ثقته بتعاقب الليل والنهار...كان يتدرب على القتال بإتقانٍ لم أرَ له مثيلاً...ويتوكل على الله بإيمانٍ صادقٍ ونفسٍ مطمئنة...واعتاد أن يعلم ابنه مهارات القتال...ومعها كان يعلمه كلمات يكررها على مسامعه كل حين...كان يقول: (يا بني...لست أول من سيجاهد في سبيل الله...ولا آخرهم...لكني أريدك أقواهم وأكثرهم إيمانًا ومهارة...كن مستعدًا دائمًا لمعركتك الأخيرة...فلا يعلم ميعادها إلا الله...وتوكل عليه فإنه يحب المتوكلين...وتذكر يا بني...مهما ضاقت عليك الدنيا...ابتسم...فالبسمة إن لم تُضِئ لك طريق الظلمات...أرشدتك إلى مصدر النور والنجاة)...آآآآآه يا حبيبة...يالها من أيام تبعث في القلب الشجون..."

"وماذا عن ابنه؟! أتعلم منه ذلك بالفعل؟؟!!" تقولها على استحياء...

"أتعلمين يا حبيبة...لم يهون علي فراق أبا خالد إلا أن أصبح خلد نسخةً من أبيه...ثقته بالله لا تقارن...وابتسامته لا تفارق وجهه مهما اشتد الخطب..."

تقول (حبيبة) في نفسها..."أما هذه فأعلمها جيدًا"

تكمل أم خالد "لقد رزق الله خالد قوةً ومهارة في القتال لم أرها في غيره من المقاتلين...لقد دربه أبوه كما أخبرتك...وإني لاجد خالد تفوق على أبيه في القوة والمهارة...لطالما يحكي لي خالد حكاياتٍ عن أيامه في الجهاد...ما كنت لأصدق حكاويه تلك إلا لاني أجد المدينة كلها تتناولها في أحاديثها كالأساطير...ومع كل هذه القوة والحزم في الحرب...فقلبه أحن عليَّ من نسمات ربيعٍ بهيج...ولا يكلمني إلا كما تتكلم العذراء من شدة الخجل...رأيت فيه قول الله تعالى متجسدًا...((أشداء على الكفار رحماءُ بينهم))..."

وهنا كانت الخجول هي (حبيبة) من رقة ما تسمع عن (خالد)...واحمر وجهها كوردةٍ حمراء ساعة الإزهار...ومع كل كلمةٍ تسمعها يزداد قلبها شغفًا به...وتزداد روحها تعلقًا بروحه...حتى وإن باعدت بينهما المسافات والأميال...

.....................................................

استقر الجيش بالقرب من القلعة التي أمر ببنائها السلطان (محمد الثاني)...وأمضوا وقتهم في التدريب والاستعداد للقتال...كان السلطان السابق بايزيد الأول قد أنشأ قلعة الأناضول على ضفة البوسفور الآسيوية على أضيق نقطة من مضيق البوسفور المؤدي إلى البحر الأسود أمام القسطنطينية أثناء حصاره لها...وقام (محمد الثاني) ببناء قلعته على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، حتى تكون قاعدة ينطلق منها لمهاجمة القسطنطينية...وبدأ البناء على قدمٍ وساق...لم يعلن السلطان (محمد الثاني) الحرب علنًا على القسطنطينية...لا يزال يضع أملاً على فتحها بالسلم لا بالحرب...وبالمفاوضات مع امبراطورها البيزنطي...لكن دون جدوى...

جهز السلطان الجيش وأعطاه الفرصة ليتدرب ويتمرن أثناء مدة بناء القلعة...حتى إذا اكتمل بناؤها كان الجيش في أقوى حالاته وبدأ المعركة كالريح العاصفة...

وفي الجيش بالطبع (خالد)...شغل نفسه عن التفكير بالتدريب وتقوية مهاراته...يبارز هذا ويُعَلِّم ذاك على حمل السيف ورمي السهم...كان يستحضر في كل ضربة سيف ما علمه أبوه...ويزداد حماسه يومًا بعد يوم...وفي إحدى المبارزات مع زميلٍ له في الجيش أثناء التدريب...فجأة...بَرَقَت عينا (خالد) وتوقف عن المبارزة...وصرخ...

"ما هذا!!!...ماذا أرى؟!...أحقًا هذا؟؟!!!....آآآآآآآآآآآآآه"

ووقع (خالد) أرضًا ودمه يسيل....................................................يتبع

في الطريق إليها...الحلقة الأولى


-
"بوركت يا خالد...وفقك الله وأعانك أنت ومن معك...ورزقكم نصرًا مؤزرًا من لدنه سبحانه...كم تمنيت أن أكون معكم لولا منعتني قدمي وما جرا لها في الفتح الأخير"

- "بارك الله لك وشفاك يا عامر...خذ النية ولك الأجر إن شاء الله"

- "إن شاء الله"

(خالد) يجري في قمة السعادة والأمل والحماس، متوجهًا لأمه ليزف إليها الخبر السعيد...والتي كانت تحس أن بشرى ما قادمة...وها قد أتت...لقد تم اختيار ابنها (خالد) في الجيش الزاحف إلى القسطنطينية ليفتحها...والذي يعده القائد السلطان (محمد الثاني).

هنأته أمه ودعت له بالإخلاص وقبول العمل...وبالتوفيق والثبات...وبالنصر أو الشهادة في سبيل الله...راضيًا قلبها قنوعًا بأي النتائج...فكلاهما خير...وهي مؤمنة بذلك أشد الإيمان...قلبها قد امتلأ بنور الحق والثقة في علام الغيوب...

وبعد أن شكر لأمه دعاءها وأمَّن عليه...قام مصليًا لله تعالى شكرًا أن منَّ عليه من نعمته واصطفاه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً...

هاهو ذاهبٌ إلى السوق ليشتري مئونة السفر استعدادًا لأيام الجهاد...وإذا به على باب الدار يرفع بصره إلى حيث اعتاد أن ينظر كل صباح...فيجدها متهللة أساريرها وعلى عينيها سؤال لا يحتاج لتفسير...فيجيب سؤالها بعينيه هو الآخر أن ((نعم))...هو ما تظنين...قد اختاروني لهذا الفتح العظيم...وانتقلت السعادة من عينيه لعينيها...ومن قلبه لقلبها...دونما حديث...فحديث العيون هو ديدنهما منذ زمن...هي (حبيبة) جارته منذ بضع سنين...لم يرها في هذه السنين إلا مراتٍ معدودة...ولم يدر بينهما أي حديث إلا حديث العيون...لم يسمع صوتها إلا قدرًا وصدفة...ولم تكن تراه إلا وقت الراحة من الفتوحات والحروب...فمثله ماهرٌ بالحرب والقتال ولا يترك فتحًا إلا شارك فيه...

كانت المدينة كلها تترقب إعلان المختارين لهذا الجيش العظيم...الجيش الذي قد يكتب الله على يديه فتح مدينة استعصى على خلفاء المسلمين فتحها ما يزيد عن العشر مرات...إنها القسطنطينية...قلعة القلاع وحصن الحصون...حلم بفتحها خليفة تلو الآخر..وكان الشعاع الذي بدأ كل هذه الأحلام حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: ((لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش))...

وها هي محاولة جديدة بجيش جديد وخليفة جديد...يحلم بفتحها ليل نهار...ويرجو أن ينال هذا الشرف العظيم...

كانت (حبيبة) من المترقبين لهذا الإعلان...فهي تعلم أن (خالد) هو الآخر يحلم بهذا الفتح...ويدعو الله ليل نهار أن يجعله من نصيبه وقدره...منتصرًا فيه أو شهيدًا...وبالفعل ظلت منتظرة عودته أشد انتظار...والسؤال لم يفارق عينيها إلا حين ارتوى بالإجابة...

وانقضى يوم الفرح والسعادة...وأتى اليوم التالي الذي يُعلن فيه عن المعدات والتجهيزات لرحلة الجهاد...ومن أهم هذه التجهيزات الأطباء والطبيبات الذين سيرافقون الجيش طيلة وقت الحرب...لعلاج من يصيبه أذى من المحاربين...و (حبيبة) من أمهر طبيبات الحروب بعصرها...وكانت تحلم هي الأخرى بمثل هذا اليوم المشهود...إلا أن مكيدة ما منعت اختيارها ضمن الجيش...كادت لها إحدى زميلاتها لتحرمها الأجر الكبير...فقدر الله أن لن تستطيع (حبيبة) الذهاب مع الجيش...

وهنا أصابها الحزن الشديد...بل قل حزنان...أولهما وأكبرها أن حُرمت أجر الجهاد في سبيل الله في فتحٍ عظيمٍ كهذا...قلبها الصغير يتقطع من شدة الحزن...أبكل بساطة لن تستطيع الجهاد؟؟!! كيف ذلك وقد دعت الله ليل نهار...كيف ذلك وقد حلمت عشرات الأحلام في نومها بتفاصيل يوم الفتح ويوم دخول المدينة مع الجيش منتصرًا رافعًا راية الإسلام عاليًا...كاد إيمانها يتزعزع من شدة ما سيطر عليها حب الجهاد...

أما حزنها الثاني...فهو على أنها لن ترافق (خالد) في هذا الجيش...لن تكون بجواره طيلة وقت الحرب...لن تعرف ما جرا وما يجري وما سيكون...لن تعلم أسوف يعود سالمًا غانمًا منتصرًا أم سيبتليه الله في ذراعٍ تُقطع أو في قدمٍ تُبتر...لن تعلم أسيعود لها ببهجة النصر أم سيكتبه الله مع الشهداء...لن تعلم كل هذا...ولن تذهب للجهاد...

يتبع

الاثنين، 9 مارس 2009

بسم الله لرحمن الرحيم


بمناسبة المولد النبوي الشريف

أهديكم أعزائي هذه القصيدة الفائزة في مهرجان عمان الأردن في مارس 2008م في مدح النبي (ص) وهي للشاعر السوداني الشاب الدكتور وافي صلاح الدين الأستاذ المحاضر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية وعضو مركز الأبحاث والدراسات الأكاديمية في الجامعة العالمية بيروت.

وهي أطول من هذا لكن هذا ما استطعت الحصول عليه


استمتعوا معها وازدادوا حبًا وعشقًا للحبيب محمد صلى الله عليه أفضل صلاة وسلم تسليمًا كثيرًا



الشوق حركني بغير تردد*** والشعر أبحر بي في غرام محمد

إن صمت عن نظم الكلام تكلفا*** فالصمت أبلغ في جلال المشهد

وإذا الهوى سلب الفؤاد فإنني*** أسقي البلاغة من مديح محمد

هم يا زمان فذا أوان الموعد*** ردد غرامي في مديح محمد

قلبي يطيب بقرب ذاك المورد*** ويطير يسمو فوق هام الفرقد

قلبي يذوب بعشقه فغرامه*** وجه الحبيب الهاشمي محمد

فإذا مدحت محمدا بقيصدتي*** فلقد مدحت قصيدتي بمحمد


هم يا زمان فذا أوان الموعد*** وأرح مطيك عند باب محمد

أسبغ على الأكوان أبهى حلة*** وانشر غرامي في مديح محمد

خلعت لك الأيام تاج ولاءها*** إذ أبصرت بعلاك تاج السؤدد

يمناك تروى كل جيش ظامي*** والريق منك شفاء عين الأرمد

والجذع في فن الحنين معلم*** والذكر يسمع من صميم الجلمد

هبلا هباء قد تركت فجمعهم*** بالذل أوهىمن رماد رمدد

وذراع شاة الخيبرية ناطقا*** وافاك بالخبر اليقين الأوكد

والبدر من شقف بنورك شق كي*** يروى بكأس القرب بل كي يفتدي

والبرق يلهث لايروم براقه*** أما السماء تزينت لمحمد

من جبرئيل دنا تدلى وارتقى*** فلك السيادة في المقام الأوحد
وصحابك الزهر النجوم فديتهم*** أقمار تم في سماء محمد

خلد الفراقد في السماء سوابحا*** فإذا الفراقد في بقيع الفرقد

يا يوسفي اللفظ قد وافتك أبكار المعاني إذ تروح وتغتد

يتيمتهن فذبن غذ قطعن منهن القلوب بلهفة وتنهد

سفرت لمنطقك اللآلي حسرا فإذا نطقت تخضبت بتورد

فالدر في أعتاب لفظك طامع*** ليذوق شهدا من حديث محمد

أنى يزاحم منك الفاظا وكلل الدر خدام للفظ محمد

فإذا مدحت محمد بقصيدتي*** فلقد مدحت قصيدتي بمحمد


بات الإباء يتيه في خيلانه*** ليروم تعكيرا لبحر مزبد

خرس النواعق شر أقزام الورى*** من كل أعمى مفتر متبلد

من حقدهم نسجو دنيء رسومهم*** فا رتجت الدنيا بصبح اسود

وتحصنوا بالإفك فهو سلاحهم*** فا عجب لصولة ارنب مستأسد

إن عربدت زمر االشفاء بكيدهم ***فارجم بشهب الحق كل معربد

وإذا حسام العدل فارق غمده*** عرف الشقي مصير كيد المعتدي

إن عاب فضلك يا محمد جاحد*** فالصبح ليل في عيوب لالحسد

فاصدع ومزق للظلام جحافلا*** فالنور كل النور نور محمد

فالدين يسر والشريعة سمحة*** فالرحمة المهداة نهج محمد

نال الأمان مع البشائر ظافرا*** من حاز نورا من شريعة أحمد

من عذب سيرته الأكابر تستقي*** فإذا ظمئت وردت أعذب مورد

فإذا مدحت محمدًا بقصيدتي*** فلقد مدحت قصيدتي بمحمد

السبت، 7 مارس 2009

...


الثلاثاء، 17 فبراير 2009

الثانية...




بسم الله الرحمن الرحيم

((لحيةٌ ونقاب))








سائرٌ في طريق عودتي للبيت وإذا بي أمر بشارع مختصر ضيق، وتسير أمامي فتاتان أظن أن عمر كلتاهما لا يتعدى الثالثة عشرة، ومن ثقل ما كنت أحمل من أغراض كنت بطيء المشي مما عرضني لسماع حديث الفتاتين الذي كان بدوره عالي الصوت.
إليكم الحديث كما كان ثم نأتي بعده بالتعليق:

س:أمك عاملة ايه دلوقتي؟
ص: تعبانة قوي ومش عارفة أعملها ايه...
س: أمال اخواتك الرجالة فين؟!!
ص: اخواتي واحد سايب البيت وصايع والتاني في شغله مش دريان، ومش بس كده؛ ديك النهار اتخانقوا الاتنين وواحد عور التاني راح التاني الشيخ ((الشييييخ)) راح رافع المطوة على أخوه عاوز يغزه بيها وكل ده وأمي تعبانة
.

هذا كان ما سمعته غصبًا وليس تلصصًا عليهما.
لقد أثارني ما سمعت أي إثارة، وحرك في داخلي حزنًا رهيبًا...
أعلم أن الحوار مليء بمواطن يمكن الحديث عنها كثيرًا، لكن ما سأقتصه منه هو كلمة واحدة ((الشيخ))...
سبحان الله...لم تكن الفتاة لتكرر هذه الكلمة ويعلو بها صوتها إلا لأنها أدركت معناها تمام الإدراك، وأيقنت أن "المشيخة" لا تكون بالمظاهر إنما بالكلمة الطيبة والخلق الجميل، مما دفعها لأن تستنكر وتندهش من خلق "الشيخ" الذي من المفترض أن يكون هو القدوة في بيت ليس فيه شيوخ غيره.
سبحان الله...فقهت الفتاة...
أستطيع أن أتصور متى تطلق فتاة بهذا العمر على أخيها لفظ "شيخ"، أعتقد أنها اللحية والصلاة في الجامع واصطحاب القرآن أينما ذهب، ومشاهدة قناة الناس والرحمة وربما الحكمة أيضًا -مع كل احترامي لشيوخهم الأجلاء- وليس في ذلك أي خطأ بل هذا كله من فضائل ديننا الحنيف، لكن ما يحيك في صدري أن تتوقف "المشيخة" عند هذه الظاهرات الصغيرة دون غيرها من أسس الإسلام الذي قال عنه خير الخلق عليه الصلاة والسلام "الدين المعاملة"، ويؤكد ذلك ما وصف النبي به نفسه حين قال أنه أتى ليتمم مكارم الأخلاق.
حقًا...لقد اشتقت لقول هابيل لأخيه كما جاء في الذكر الحكيم:
((لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك))
عفوًا يا شيخ...إنك جهلت أو تجاهلت أن رفع السلاح على أخيك المسلم ينزع عنك عباءة المشيخة، كما أنك نسيت أو تناسيت أنك بما فعلت من مظاهر طيبة حسنة أصبحت قدوة في نظر من حولك بداية بأختك المسكينة التي...
التي أظن أني أراها في المستقبل كف تكون أمًا تربي أبناءها على هذه الجملة: "يابني مش كل من ربى دقنه بقى شيخ، ده ياما ناس مربية دقنها وبتعمل وتسوي، وشفت بعيني محدش قالي"...

حقًا...لك الله يا فتاة...ولنا الله فيما سنراه من نسلها الذي سيتغذى عقله على كره الشيوخ وسيرتهم...

أترك الفتاة وأخيها وأذكر موقفًا شبيهًا حدث أول أمس أمام عيناي...
إليكم الموقف:

جالس بمحطة مترو الأنفاق بصحبة زميل عزيز منتظرين قدوم القطار ليعود كل منا إلى بيته...
وإذا بشابٍ "ملتحٍ" يتسلق سور المترو الخلفي ليدخل المحطة دون أن يتكلف عبء ثمن التذكرة...
أردنا إحسان الظن به فقال صاحبي: يمكن مربي دقنه كسل ولا منظره.
وعندما ظهرت ملامحه جيدًا وجدناه حافًا لشاربه مطلقًا لحيته كما تقول السنة النبوية تمامًا.
وحينها فقط أدركت أنا وصديقي أنه من هؤلاء "الشيوخ" الذين سبق ذكرهم أعلى هذه السطور...
عفوًا يا "شيخ"...إنك نسيت أو تناسيت أن من غشنا فليس منا، فسولت لك نفسك الغش فيما قد تراه صغيرًا، لكني والله أراه كبيرًا...
هب أن أحد صبيان المدارس لمحك وأنت تقفز هذه القفزة...
أتعلم يا شيخ...سوف يغش هذا الصبي في حياته كلها، ويقفز من سور الأمانة ليأخذه قطار الخيانة إلى محطة الهلاك الأخيرة...وقد يكون كل هذا...بسببك...يا شيخ...

ما يشبه تلك المواقف ما أخبرني به صديق آخر منذ فترة...

قال: عارف...أنا بكره الست اللي بتلبس النقاب دي...ياعم دول بيبقوا عاملين ومسويين بلاوي زرقا...اسكت انت متعرفش حاجة...

لا أعلم صدقًا إن كان قد رأى فعلًا ما يجعله يقول هذا الكلام، إلا أني أقول أني رأيت من المنتقبات بعضًا مما رأيته في الشيوخ...بالطبع شيوخ ومنتقبات هذا الزمان الغريب، وليس كما ينبغي أن يكونوا عليه.

مع كل ما وجههته من لوم ونقد...ستعجبون إن قلت الآن: أنا آسف...
أقولها لكل ملتحٍ ولكل منتقبة...نعم...فقد لمتكم ونقد أخطاءكم وكأنكم ملائكة لا بشر يخطئ ويصيب...لكن هذا قدركم أن خلقكم الله في زمن ينظر فيه الناس لكم هذه النظرة...
احترسوا...لكل كلمة...لكل نظرة...لكل موقف...فالناس تنظر إليكم نظرة القدوة...أعلم أنكم لستم جميعًا على قدرها...لكن أعانكم الله عليها...أنتم في زمن أصبح فيه حديث اللحية والنقاب شبهة تتناولها ألسن الشيوخ والمفتين في كل مكان...وازدادت علينا الشبهات...فقد صار الحق محاطًا بالضباب غير واضحًا للعامة بل بالكاد يدركه خاصة الخاصة...
اسمحولي أن أستعير جملة الممثل "ظالم إمام" وأحرف فيها وأقول:"بلد بتاعة شبهات صحيح"...

وأختم حديثي بالتفاؤل والأمل كما ستعتادون مني على لك إن شاء الله...

فقد رأيت من الملتحين رجلًا كان أستاذي في الثانوية، وكانت السنة التي قضيتها معه محور تحول في حياتي...وهذا مما رأيته فيه من خلق جميل وثقافة ثقيلة، وأدب وعلم غزيرين، لن تكفي كلماتي مدح خصاله-ولا أزكي على الله أحدًا- لكن باختصار...ما أروعك من ملتحٍ قدوة.
وبالجانب الآخر رأيت امرأة منتقبة غايةً في العلم والثقافة، ما من كلمة قالتها إلا وكانت تنم عن حكمة عالية وعلم بديع، إضافة إلى أن المناسبة التي رأيتها بها كانت مسابقة للمخترعين، فعجبت حينها أن كانت امرأة منتقبة –بالإضافة لما تحمله من علم- وتخترع ما يفيد البشرية...باختصار...ما أروعك من منتقبةٍ قدوة...

رجائي الأخير...
لا يكن منكم من يحكم على الناس لمظهره...فقد يخبئ المظهر وراءه باطنًا عجيبًا...أرجوكم...لا تزيدوا نار الشبهات بتصديقها والتصديق عليها...وإن رأى منكم أحد الملتحين أو إحدى المنتقبات...فليحكم على ما في عقله من علم وما في شخصه من خلق، وليتجاهل ما كان ظاهرًا منه...

وفقنا الله جميعًا إلى ما يحبه ويرضاه...

الخميس، 5 فبراير 2009

الأولى...




بسم الله الرحمن الرحيم السميع العليم



في زمن نرى فيه اختلافًا كبيرًا عن زمن الرسول خير الأنام...

يتصارع في جوفي إحساسان متناقضان...

وحتمًا...أحدهما سيفوز...

((صراع الألم والأمل))


يارب إني لراضٍ والرضا صفتي***أن كان عمري ببعض زماني الحالي

أن عشت أشهد للعصيان ألوانًا***يندى لها خجلًا خُلُقُ الفتى السامي

أن عشت أبحث عن قدواتنا فأرى***من أسفل الناس من قد صار في العالي

لم أصحب ابن الخطاب ولا أبا بكرٍ***وسمعت لذا بن الديابِ غناءه البالي

لم أصحب ابن العفان ولا الإمامَ علي***ورأيت تمثيله بن إمامٍ الغاني

لم أشهد العدلَ عند الخامس العمرِ***ورأيت ظلم الحكام ورأسهم مصري

لم ألقَ معتصمًا فيغيث من صرخت***ورأيت عاشق عرش المنصب الفاني

لم أحيَ في عهد عائشةٍ ولم أرها***ورأيتُ الهيفاءَ تعرضُ جسمها العاري

لم تحظَ عيني بنور المسجد الأقصى***ورَأت صهاينةً في حضنه الغالي

لم أحيَ يومًا وأندلس الهدى معنا***ورأيت إسلامها قد صار في الماضي

قد كان يجمعنا الإسلام في وطنٍ***واليوم وحدتنا لحقت بأجدادي

ما بين سنيٍ والشيعةُ الأخرى***وهناك سلفيٌ وهناك إخواني

يكفي بكاءً فقد أرهقتها عيني***نبكي على الماضي ننسى من الآتي

مع كل أحزاني بالرغم من ألمي***أقسمت أن تغلب الأحزانَ آمالي

لازلت أحلم بالأفراحِ آتيةً***مع كل فجرٍ به البشرى لأيامي

في أمتي قومٌ هم سادة الأمم***لكن تشتتهم في الأرض أضناني

إنى رأيتُ زويلًا قائدًا علمًا***فهو الوريثُ بحقٍ لابن حيانِ

إن كان حَبرُ التفسير هو ابن عباسٍ***فاليوم نسمع عذب القول شعراوي

إن كان في السابق الطبري مؤرخنا***فاليوم يرغب في التاريخ سرجاني

كان بن عبد السلام العز في الماضي***واليوم يمشي بنفس الدرب قرضاوي

بوركت يابن الجوزي خير داعيةٍ***واليوم عمروٌ ومن يدعى السويداني

شهداءُ سابقنا كثر وقد زادوا***ياسين درتنا والألف غزاوي

إني أشم عبير النصر مقتربًا***وغدي سيحمل عودة عزنا الماضي

إني لعودِ صلاح الدين مرتقبٌ***سيعود حتمًا لينصر جيل أبنائي

تمت بحمد الله...